فصل: كيف نزل الوحي وأول ما نزل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


كيف نزل الوحي وأول ما نزل‏:‏

قال ابن عباس‏:‏ المهيمن الأمين القرآن، أمين على كل كتاب قبله‏:‏ حدثنا عبيد الله بن موسى عن شيبان عن يحيى عن أبي سلمة قال‏:‏ أخبرتني عائشة وابن عباس قالا لبث النبي صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين ينزل عليه القرآن، وبالمدينة عشرا‏.‏

ذكر البخاري، رحمه الله، كتاب ‏"‏فضائل القرآن‏"‏ بعد كتاب التفسير؛ لأن التفسير أهم ولهذا بدأ به، ‏[‏ونحن قدمنا الفضائل قبل التفسير وذكرنا فضل كل سورة قبل تفسيرها ليكون ذلك باعثا على حفظ القرآن وفهمه والعمل بما فيه والله المستعان‏]‏‏.‏

وقول ابن عباس في تفسير المهيمن إنما يريد به البخاري قوله تعالى في المائدة بعد ذكر التوراة والإنجيل‏:‏ ‏{‏وَأَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 48‏]‏‏.‏ قال الإمام أبو جعفر بن جرير، رحمه الله‏:‏

حدثنا المثنى، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني معاوية عن علي -يعني ابن أبي طلحة- عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ‏}‏ قال‏:‏ المهيمن‏:‏ الأمين‏.‏ قال‏:‏ القرآن أمين على كل كتاب قبله‏.‏ وفي رواية‏:‏ شهيدا عليه‏.‏ وقال سفيان الثوري وغير واحد من الأئمة عن أبي إسحاق السبيعي، عن التميمي، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ‏}‏ قال‏:‏ مؤتمنا‏.‏ وبنحو ذلك قال مجاهد والسدي وقتادة وابن جريج والحسن البصري وغير واحد من أئمة السلف‏.‏ وأصل الهيمنة‏:‏ الحفظ والارتقاب، يقال إذا رَقَب الرجل الشيء وحفظه وشهده‏:‏ قد هيمن فلان عليه، فهو يهيمن هيمنة وهو عليه مهيمن، وفي أسماء الله تعالى‏:‏ المهيمن، وهو الشهيد على كل شيء، والرقيب‏:‏ الحفيظ بكل شيء‏.‏

وأما الحديث الذي أسنده البخاري‏:‏ أنه، عليه السلام، أقام بمكة عشر سنين ينزل عليه القرآن، وبالمدينة عشرا، فهو مما انفرد به البخاري دون مسلم، وإنما رواه النسائي من حديث شيبان وهو ابن عبد الرحمن، عن يحيى وهو ابن أبي كثير، عن أبي سلمة عنها‏.‏

وقال أبو عبيد القاسم بن سلام‏:‏ حدثنا يزيد عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس قال‏:‏ أنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا في ليلة القدر، ثم نزل بعد ذلك في عشرين سنة، ثم قرأ ‏{‏وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنزلْنَاهُ تَنزيلا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 106‏]‏‏.‏ هذا إسناد صحيح‏.‏ أما إقامته بالمدينة عشرا فهذا ما لا خلاف فيه، وأما إقامته بمكة بعد النبوة فالمشهور ثلاث عشرة سنة؛ لأنه، عليه الصلاة والسلام، أوحى إليه وهو ابن أربعين سنة، وتوفى وهو ابن ثلاث وستين سنة على الصحيح، ويحتمل أنه حذف ما زاد على العشرة اختصارا في الكلام؛ لأن العرب كثيرا ما يحذفون الكسور في كلامهم، أو أنهما إنما اعتبرا قرن جبريل، عليه السلام، به عليه السلام‏.‏ فإنه قد روى الإمام أحمد أنه قرن به، عليه السلام، ميكائيل في ابتداء الأمر، يلقى إليه الكلمة والشيء، ثم قرن به جبريل‏.‏

ووجه مناسبة هذا الحديث بفضائل القرآن‏:‏ أنه ابتدئ بنزوله في مكان شريف، وهو البلد الحرام، كما أنه كان في زمن شريف وهو شهر رمضان، فاجتمع له شرف الزمان والمكان؛ ولهذا يستحب إكثار تلاوة القرآن في شهر رمضان؛ لأنه ابتدئ نزوله فيه؛ ولهذا كان جبريل يعارض به رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل سنة في شهر رمضان، فلما كان في السنة التي توفى فيها عارضه به مرتين تأكيدا وتثبيتًا‏.‏

وأيضا في هذا الحديث بيان أنه من القرآن مَكِّي ومنه مدني، فالمكي‏:‏ ما نزل قبل الهجرة، والمدني‏:‏ ما نزل بعد الهجرة، سواء كان بالمدينة أو بغيرها من أي البلاد كان، حتى ولو كان بمكة أو عرفة‏.‏ وقد أجمعوا على سور أنها من المكي وأخر أنها من المدني، واختلفوا في أخر، وأراد بعضهم ضبط ذلك بضوابط في تقييدها عسر ونظر، ولكن قال بعضهم‏:‏ كل سورة في أولها شيء من الحروف المقطعة فهي مكية إلا البقرة وآل عمران، كما أن كل سورة فيها‏:‏ ‏{‏يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ فهي مدنية وما فيها‏:‏ ‏{‏يَاأَيُّهَا النَّاسُ‏}‏ فيحتمل أن يكون من هذا ومن هذا، والغالب أنه مكي‏.‏ وقد يكون مدنيا كما في البقرة ‏{‏يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 20‏]‏، ‏{‏يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأرْضِ حَلالا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 168‏]‏‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ حدثنا أبو معاوية، حدثنا من سمع الأعمش يحدث عن إبراهيم بن علقمة‏:‏ كل شيء في القرآن‏:‏ ‏{‏يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ فإنه أنزل بالمدينة، وما كان ‏{‏يَاأَيُّهَا النَّاسُ‏}‏ فإنه أنزل بمكة‏.‏ ثم قال‏:‏ حدثنا علي بن معبد، عن أبي الملَيْح، عن ميمون بن مِهْران، قال‏:‏ ما كان في القرآن‏:‏ ‏{‏يَاأَيُّهَا النَّاسُ‏}‏ و‏{‏يَابَنِي آدَمَ‏}‏ فإنه مكي، وما كان‏:‏ ‏{‏يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ فإنه مدني‏.‏

ومنهم من يقول‏:‏ إن بعض السور نزل مرتين، مرة بالمدينة ومرة بمكة، والله أعلم‏.‏ ومنهم من يستثني من المكي آيات يدعي أنها من المدني، كما في سورة الحج وغيرها‏.‏

والحق في ذلك ما دل عليه الدليل الصحيح، فالله أعلم‏.‏ وقال أبو عبيد‏:‏ حدثنا عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح بن علي بن أبي طلحة، قال‏:‏ نزلت بالمدينة سورة البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنفال، والتوبة، والحج، والنور، والأحزاب، والذين كفروا، والفتح، والحديد، والمجادلة، والحشر، والممتحنة، والحواريون، والتغابن، و‏{‏يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ‏}‏ و‏{‏يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ‏}‏ والفجر، ‏{‏وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى‏}‏ و‏{‏إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ‏}‏ و‏{‏لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ و‏{‏إِذَا زُلْزِلَتِ‏}‏ و‏{‏إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ‏}‏ وسائر ذلك بمكة‏.‏

وهذا إسناد صحيح عن ابن أبي طلحة مشهور، وهو أحد أصحاب ابن عباس الذين رووا عنه التفسير، وقد ذكر في المدني سورا في كونها مدنية نظر، وفاته الحجرات والمعوذات‏.‏

الحديث الثاني‏:‏ وقال البخاري‏:‏ حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا معتمر قال‏:‏ سمعت أبي عن أبي عثمان قال‏:‏ أنبئت أن جبريل، عليه السلام، أتى النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أم سلمة، فجعل يتحدث، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من هذا‏؟‏‏"‏ أو كما قال، قالت‏:‏ هذا دحية الكلبي، فلما قام قلت‏:‏ والله ما حسبته إلا إياه، حتى سمعت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يُخبر خَبر جبريل‏.‏ أو كما قال، قال أبي‏:‏ فقلت لأبي عثمان‏:‏ ممن سمعت هذا‏؟‏ فقال‏:‏ من أسامة بن زيد‏.‏ وهكذا رواه أيضا في علامات النبوة عن عباس بن الوليد النرسي، ومسلم في فضائل أم سلمة عن عبد الأعلى بن حماد ‏[‏ومحمد بن عبد الأعلى‏]‏ كلهم عن معتمر بن سليمان به‏.‏

والغرض من إيراد هذا الحديث هاهنا أن السفير بين الله وبين محمد صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام وهو ملك كريم ذو وجاهة وجلالة ومكانة كما قال‏:‏ ‏{‏نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 193، 194‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ‏}‏ الآيات ‏[‏التكوير‏:‏ 19-22‏]‏‏.‏ فمدح الرب تبارك وتعالى عبديه ورسوليه جبريل ومحمدًا صلى الله عليه وسلم وسنستقصي الكلام على تفسير هذا الكتاب في موضعه إذا وصلنا إليه إن شاء الله تعالى وبه الثقة‏.‏

وفي الحديث فضيلة عظيمة لأم سلمة، رضي الله عنها -كما بينه مسلم رحمه الله- لرؤيتها لهذا الملك العظيم، وفضيلة أيضا لدحية بن خليفة الكلبي، وذلك أن جبريل، عليه السلام، كان كثيرا ما يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم على صورة دحية وكان جميل الصورة، رضي الله عنه، وكان من قبيلة أسامة بن زيد بن حارثة الكلبي، كلهم ينسبون إلى كلب بن وبرة وهم قبيلة من قضاعة، وقضاعة قيل‏:‏ إنهم من عدنان، وقيل‏:‏ من قحطان، وقيل‏:‏ بطن مستقل بنفسه، والله أعلم‏.‏ الحديث الثالث‏:‏ حدثنا عبد الله بن يوسف، حدثنا الليث بن سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ما من الأنبياء نبي إلا أعطى ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة‏"‏‏.‏

ورواه أيضا في ‏[‏كتاب‏]‏ الاعتصام عن عبد العزيز بن عبد الله ومسلم والنسائي عن قتيبة جميعا، عن الليث بن سعد، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبيه -واسمه كيسان المقبري- به‏.‏

وفي هذا الحديث فضيلة عظيمة للقرآن المجيد على كل معجزة أعطيها نبي من الأنبياء، وعلى كل كتاب أنزله، وذلك أن معنى الحديث‏:‏ ما من نبي إلا أعطى من المعجزات ما آمن عليه البشر، أي‏:‏ ما كان دليلا على تصديقه فيما جاءهم به واتبعه من اتبعه من البشر، ثم لما مات الأنبياء لم يبق لهم معجزة بعدهم إلا ما يحكيه أتباعهم عما شاهده في زمانه، فأما الرسول الخاتم للرسالة محمد صلى الله عليه وسلم فإنما كان معظم ما آتاه الله وحيا منه إليه منقولا إلى الناس بالتواتر، ففي كل حين هو كما أنزل، فلهذا قال‏:‏ ‏"‏فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا‏"‏، وكذلك وقع، فإن أتباعه أكثر من أتباع الأنبياء لعموم رسالته ودوامها إلى قيام الساعة، واستمرار معجزته؛ ولهذا قال الله‏:‏ ‏{‏تَبَارَكَ الَّذِي نزلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 1‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 88‏]‏، ثم تقاصر معهم إلى عشر سور منه فقال‏:‏ ‏{‏أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 13‏]‏ ثم تحداهم إلى أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا، فقال‏:‏ ‏{‏أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 38‏]‏، وقصر التحدي على هذا المقام في السور المكية كما ذكرنا وفي المدنية أيضا كما في سورة البقرة، حيث يقول تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نزلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 23، 24‏]‏ فأخبرهم بأنهم عاجزون عن معارضته بمثله، وأنهم لا يفعلون ذلك في المستقبل أيضا، وهذا وهم أفصح الخلق وأعلمهم بالبلاغة والشعر وقريض الكلام وضروبه، لكن جاءهم من الله مالا قبل لأحد من البشرية من الكلام الفصيح البليغ، الوجيز، المحتوي على العلوم الكثيرة الصحيحة النافعة، والأخبار الصادقة عن الغيوب الماضية والآتية، والأحكام العادلة والمحكمة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 115‏]‏‏.‏

وقال الإمام أحمد بن حنبل‏:‏ حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا أبي، حدثنا محمد بن إسحاق قال‏:‏ ذكر محمد بن كعب القرظي عن الحارث بن عبد الله الأعور قال‏:‏ قلت‏:‏ لآتين أمير المؤمنين، فلأسألنه عما سمعت العشية ‏[‏قال‏]‏ فجئته بعد العشاء، فدخلت عليه، فذكر الحديث‏.‏ قال‏:‏ ثم قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏‏"‏أتاني جبريل فقال‏:‏ يا محمد، أمتك مختلفة بعدك‏"‏‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏فقلت له‏:‏ فأين المَخْرَج يا جبريل‏؟‏‏"‏ قال‏:‏ فقال‏:‏ ‏"‏كتاب الله به يَقْصِم الله كلَّ جبار، من اعتصم به نجا، ومن تركه هلك، مرتين، قول فَصْل وليس بالهزل، لا تخلقه الألسن، ولا تفنى عجائبه، فيه نبأ من كان قبلكم، وفصل ما بينكم، وخبر ما هو كائن بعدكم‏"‏ ‏"‏ هكذا رواه الإمام أحمد‏.‏ وقال أبو عيسى الترمذي‏:‏ حدثنا عبد بن حميد، حدثنا حسين بن علي الجعفي، حدثنا حمزة الزيات، عن أبي المختار الطائي، عن ابن أخي الحارث الأعور، عن الحارث الأعور، قال‏:‏ مررت في المسجد فإذا الناس يخوضون في الأحاديث فدخلت علَى علِيّ فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين، ألا ترى الناس قد خاضوا في الأحاديث‏؟‏ قال‏:‏ أو قد فعلوها‏؟‏ قلت‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏إنها ستكون فتنة‏"‏ فقلت‏:‏ ما المَخْرج منها يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحُكْم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهَزْل، من تركه من جبار قَصَمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، هو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تَلْتَبِس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يَخْلَق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجن إذْ سمعته حتى قالوا‏:‏ ‏{‏إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 1، 2‏]‏، من قال به صَدق، ومن عمل به أجِر، ومن حكم به عَدَل، ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم‏"‏‏.‏ خذها إليك يا أعور، ثم قال‏:‏ هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حمزة الزيات، وإسناده مجهول وفي حديث الحارث مقال‏.‏

قلت‏:‏ لم ينفرد بروايته حمزة بن حبيب الزيات، بل قد رواه محمد بن إسحاق، عن محمد بن كعب القرظي، عن الحارث الأعور، فبرئ حمزة من عهدته، على أنه وإن كان ضعيف الحديث إلا أنه إمام في القراءة والحديث، مشهور من رواية الحارث الأعور وقد تكلموا فيه، بل قد كذبه بعضهم من جهة رأيه واعتقاده، أما إنه تعمد الكذب في الحديث فلا والله أعلم‏.‏

وقصارى هذا الحديث أن يكون من كلام أمير المؤمنين علي، رضي الله عنه، وقد وَهِم بعضهم في رفعه، وهو كلام حسن صحيح على أنه قد روي له شاهد عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال الإمام العلم أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه فضائل القرآن‏:‏ حدثنا أبو اليقظان، حدثنا عمار بن محمد الثوري أو غيره عن أبي إسحاق الهجري، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إن هذا القرآن مأدبة الله تعالى فتعلموا من مأدبته ما استطعتم، إن هذا القرآن حبل الله عز وجل، وهو النور المبين، والشفاء النافع، عِصْمَة لمن تمسك به، ونجاة لمن تبعه، لا يعوج فيقوم، لا يزيغ فيستعتب، ولا تنقضي عجائبه، ولا يَخْلَق عن كثرة الرد، فاتلوه، فإن الله يأجركم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات، أما إني لا أقول لكم الم حرف، ولكن ألف عشر، ولام عشر، وميم عشر‏"‏‏.‏ وهذا غريب من هذا الوجه، وقد رواه محمد بن فضيل عن أبي إسحاق الهجري، واسمه إبراهيم بن مسلم، وهو أحد التابعين، ولكن تكلموا فيه كثيرا‏.‏

وقال أبو حاتم الرازي‏:‏ لين ليس بالقوي‏.‏ وقال أبو الفتح الأزدي‏:‏ رفَّاع كثير الوهم‏.‏ قلت‏:‏ فيحتمل، والله أعلم، أن يكون وهم في رفع هذا الحديث، وإنما هو من كلام ابن مسعود، ولكن له شاهد من وجه آخر، والله أعلم‏.‏

وقال أبو عبيد أيضا‏:‏ حدثنا حجاج عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ لا يسأل عبد عن نفسه إلا القرآن، فإن كان يحب القرآن فإنه يحب الله ورسوله‏.‏

الحديث الرابع‏:‏ قال البخاري‏:‏ حدثنا عمرو بن محمد، حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا أبي، عن صالح بن كيسان، عن ابن شهاب، قال‏:‏ أخبرني أنس بن مالك أن الله تابع الوحي على رسوله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته حتى توفاه أكثر ما كان الوحي، ثم توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد‏.‏ وهكذا رواه مسلم عن عمرو بن محمد هذا -وهو الناقد- وحسن الحلواني وعبد بن حميد والنسائي عن إسحاق ابن منصور الكوسج، أربعتهم عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد الزهري به‏.‏

ومعناه‏:‏ أن الله تعالى تابع نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا بعد شيء كل وقت بما يحتاج إليه، ولم تقع فترة بعد الفترة الأولى التي كانت بعد نزول الملك أول مرة بقوله‏:‏ ‏{‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 1‏]‏ فإنه استلبث الوحي بعدها حينا يقال‏:‏ قريبا من سنتين أو أكثر، ثم حمي الوحي وتتابع، وكان أول شيء نزل بعد تلك الفترة ‏{‏يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 1، 2‏]‏‏.‏

الحديث الخامس‏:‏ حدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان عن الأسود بن قيس قال‏:‏ سمعت جندبا يقول‏:‏ اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقم ليلة أو ليلتين، فأتته امرأة فقالت‏:‏ يا محمد، ما أرى شيطانك إلا تركك، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى‏}‏ ‏[‏الضحى‏:‏ 1-3‏]‏‏.‏

وقد رواه البخاري في غير موضع أيضا، ومسلم والترمذي والنسائي من طرق أخر عن سفيان -وهو الثوري- وشعبة بن الحجاج كلاهما عن الأسود بن قيس العبدي، عن جندب بن عبد الله البجلي، به‏.‏ وسيأتي الكلام على هذا الحديث في تفسير سورة الضحى إن شاء الله تعالى‏.‏

والمناسبة في ذكر هذا الحديث والذي قبله في فضائل القرآن‏:‏ أن الله تعالى له برسوله عناية عظيمة ومحبة شديدة، حيث جعل الوحي متتابعا عليه ولم يقطعه عنه؛ ولهذا إنما أنزل عليه القرآن مفرقا ليكون ذلك في أبلغ العناية والإكرام‏.‏

قال البخاري، رحمه الله‏:‏ نزل القرآن بلسان قريش والعرب، قرآنا عربيا، بلسان عربي مبين، حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب عن الزهري‏:‏ أخبرني أنس بن مالك قال‏:‏ فأمر عثمان بن عفان زيد بن ثابت وسعيد بن العاص وعبد الله بن الزبير وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن ينسخوها في المصاحف، وقال لهم‏:‏ إذا اختلفتم أنتم وزيد في عربية من عربية القرآن، فاكتبوها بلسان قريش، فإن القرآن نزل بلسانهم، ففعلوا‏.‏

هذا الحديث قطعة من حديث سيأتي قريبا والكلام عليه ومقصود البخاري منه ظاهر، وهو أن القرآن نزل بلغة قريش، وقريش خلاصة العرب؛ ولهذا قال أبو بكر بن أبي داود‏:‏ حدثنا عبد الله بن محمد بن خلاد، حدثنا يزيد، حدثنا شيبان، عن عبد الملك بن عمير، عن جابر بن سمرة، قال‏:‏ سمعت عمر بن الخطاب يقول‏:‏ لا يملى في مصاحفنا هذه إلا غلمان قريش أو غلمان ثقيف‏.‏ وهذا إسناد صحيح‏.‏ وقال أيضا‏:‏ حدثنا إسماعيل بن أسد، حدثنا هوذة، حدثنا عوف، عن عبد الله بن فضالة، قال‏:‏ لما أراد عمر أن يكتب الإمام أقعد له نفرا من أصحابه وقال‏:‏ إذا اختلفتم في اللغة فاكتبوها بلغة مضر، فإن القرآن نزل بلغة رجل من مضر صلى الله عليه وسلم وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏قُرْءَانًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 28‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لَتَنزيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 192 -195‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 103‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَاْعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ‏}‏ الآية ‏[‏فصلت‏:‏ 44‏]‏، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ذلك‏.‏

ثم ذكر البخاري، رحمه الله، حديث يعلى بن أمية أنه كان يقول‏:‏ ليتني أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ينزل عليه الوحي‏.‏ فذكر الحديث الذي سأل عمن أحرم بعمرة وهو متمطخ بطيب وعليه جبة، وقال‏:‏ فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة ثم فجأه الوحي، فأشار عمر إلى يعلى أي‏:‏ تعال، فجاء يعلى، فأدخل رأسه فإذا هو محمر الوجه يغط كذلك ساعة، ثم سرى عنه، فقال‏:‏ ‏"‏أين الذي سألني عن العمرة آنفا‏؟‏ ‏"‏ فذكر أمره بنزع الجبة وغسل الطيب‏.‏

وهذا الحديث رواه جماعة من طرق عديدة والكلام عليه في كتاب الحج، ولا تظهر مناسبة ما بينه وبين هذه الترجمة، ولا يكاد، ولو ذكر في الترجمة التي قبلها لكان أظهر وأبين، والله أعلم‏.‏ جمع القرآن

قال المؤلف، رحمه الله فائدة جليلة حسنة‏:‏ ثبت في الصحيحين عن أنس قال‏:‏ جمع القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أربعة، كلهم من الأنصار؛ أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد‏.‏ فقيل له‏:‏ من أبو زيد‏؟‏ قال‏:‏ أحد عمومتي‏.‏ وفي لفظ للبخاري عن أنس قال‏:‏ مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجمع القرآن غير أربعة؛ أبو الدرداء، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد، ونحن ورثناه‏.‏

قلت‏:‏ أبو زيد هذا ليس بمشهور؛ لأنه مات قديما، وقد ذكروه في أهل بدر، وقال بعضهم‏:‏ سعيد بن عبيد‏.‏ ومعنى قول أنس‏:‏ ‏"‏ولم يجمع القرآن‏"‏‏.‏ يعني من الأنصار سوى هؤلاء، وإلا فمن المهاجرين جماعة كانوا يجمعون القرآن كالصديق، وابن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة وغيرهم‏.‏

قال الشيخ أبو الحسن الأشعري، رحمه الله‏:‏ قد علم بالاضطرار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم أبا بكر في مرض الموت ليصلي بالناس، وقد ثبت في الخبر المتواتر ‏"‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ليؤم القوم أقرؤهم‏"‏ ‏"‏ فلو لم يكن الصديق أقرأ القوم لما قدمه عليهم‏.‏ نقله أبو بكر بن زنجويه في كتاب فضائل الصديق عن الأشعري‏.‏

وحكى القرطبي في أوائل تفسيره عن القاضي أبي بكر الباقلاني أنه قال -بعد ذكره حديث أنس بن مالك هذا-‏:‏ فقد ثبت بالطرق المتواترة أنه جمع القرآن عثمان، وعلي، وتميم الداري، وعبادة بن الصامت، وعبد الله بن عمرو بن العاص‏.‏ فقول أنس‏:‏ ‏"‏لم يجمعه غير أربعة‏"‏ يحتمل لم يأخذه تلقيا من فِي رسول الله صلى الله عليه وسلم غير هؤلاء الأربعة، وأن بعضهم تلقى بعضه عن بعض‏.‏ قال‏:‏ وقد تظاهرت الروايات بأن الأئمة الأربعة جمعوا القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لأجل سبقهم إلى الإسلام، وإعظام الرسول لهم‏.‏

قال القرطبي‏:‏ لم يذكر القاضي ابن مسعود وسالما مولى أبي حذيفة، وهما ممن جمع القرآن‏.‏ ‏[‏نقلت هذه من على ظهر الجزء الأول من أجزاء المؤلف‏]‏‏.‏أ‏.‏ هـ‏.‏

حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا إبراهيم بن سعد، حدثنا ابن شهاب، عن عبيد بن السباق، أن زيد بن ثابت قال‏:‏ أرسل إلىّ أبو بكر -مقتل أهل اليمامة- فإذا عمر بن الخطاب عنده، فقال أبو بكر‏:‏ إن عمر بن الخطاب أتاني، فقال‏:‏ إن القتل قد استَحَرَّ بقُرَّاء القرآن، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن‏.‏ فقلت لعمر‏:‏ كيف نفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قال عمر‏:‏ هذا والله خير، فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك ورأيت في ذلك الذي رأى عمر‏.‏ قال زيد‏:‏ قال أبو بكر‏:‏ إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن فاجمعه، فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ مما أمرني به من جمع القرآن‏.‏ قلت‏:‏ كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قال‏:‏ هو والله خير‏.‏ فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر، رضي الله عنهما‏.‏ فتتبعت القرآن أجمعه من العُسُب واللِّخَاف وصدور الرجال، ووجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع غيره‏:‏ ‏{‏لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 128‏]‏ حتى خاتمة براءة، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر، رضي الله عنهم‏.‏

وقد روى البخاري هذا ‏[‏الحديث‏]‏ في غير موضع من كتابه، ورواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي من طرق عن الزهري به‏.‏

وهذا من أحسن وأجل وأعظم ما فعله الصديق، رضي الله عنه، فإنه أقامه الله بعد النبي صلى الله عليه وسلم مقاما لا ينبغي لأحد بعده، قاتل الأعداء من مانعي الزكاة، والمرتدين، والفرس والروم، ونفذ الجيوش، وبعث البعوث والسرايا، ورد الأمر إلى نصابه بعد الخوف من تفرقه وذهابه، وجمع القرآن العظيم من أماكنه المتفرقة حتى تمكن القارئ من حفظه كله، وكان هذا من سر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا نَحْنُ نزلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 9‏]‏ فجمع الصديق الخير وكف الشرور، رضي الله عنه وأرضاه‏.‏ ولهذا روى غير واحد من الأئمة منهم وَكِيع وابن زيد وقبيصة عن سفيان الثوري عن إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير عن عبد خير، عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، أنه قال‏:‏ أعظم الناس أجرا في المصاحف أبو بكر، إن أبا بكر كان أول من جمع القرآن بين اللوحين‏.‏ إسناده صحيح‏.‏

وقال أبو بكر بن أبي داود في كتاب المصاحف‏:‏ حدثنا هارون بن إسحاق، حدثنا عبدة، عن هشام، عن أبيه، أن أبا بكر هو الذي جمع القرآن بعد النبي صلى الله عليه وسلم، يقول‏:‏ ختمه‏.‏ صحيح أيضا‏.‏ وكان عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، هو الذي تنبه لذلك لما استحر القتل بالقراء، أي اشتد القتل وكثر في قراء القرآن يوم اليمامة، يعني‏:‏ يوم اليمامة، يعني يوم قتال مسيلمة الكذاب وأصحابه ومن بني حنيفة بأرض اليمامة في حديقة الموت، وذلك أن مسيلمة التف معه من المرتدين قريب من مائة ألف، فجهز الصديق لقتاله خالد بن الوليد في قريب من ثلاثة عشر ألفًا، فالتقوا معهم فانكشف الجيش الإسلامي لكثرة من فيه من الأعراب، فنادى القراء من كبار الصحابة‏:‏ يا خالد، يقولون‏:‏ ميزنا من هؤلاء الأعراب فتميزوا منهم، وانفردوا، فكانوا قريبا من ثلاثة آلاف، ثم صدقوا الحملة، وقاتلوا قتالا شديدا، وجعلوا يتنادون‏:‏ يا أصحاب سورة البقرة، فلم يزل ذلك دأبهم حتى فتح الله عليهم ووَلَّى جيش الكفار فارا، وأتبعتهم السيوف المسلمة في ‏[‏أقنيتهم‏]‏ قتلا وأسرا، وقتل الله مسيلمة، وفرق شمل أصحابه، ثم رجعوا إلى الإسلام، ولكن قتل من القراء يومئذ قريب من خمسمائة، رضي الله عنهم، فلهذا أشار عمر على الصِّديق بأن يجمع القرآن؛ لئلا يذهب منه شيء بسبب موت من يكون يحفظه من الصحابة بعد ذلك في مواطن القتال، فإذا كتب وحفظ صار ذلك محفوظا فلا فرق بين حياة من بلغه أو موته، فراجعه الصديق قليلا ليثبت في الأمر، ثم وافقه، وكذلك راجعهما زيد بن ثابت في ذلك ثم صارا إلى ما رأياه، رضي الله عنهم أجمعين، وهذا المقام من أعظم فضائل زيد بن ثابت الأنصاري؛ ولهذا قال أبو بكر بن أبي داود‏:‏ حدثنا عبد الله بن محمد بن خَلاد، حدثنا يزيد، حدثنا مبارك بن فضالة، عن الحسن؛ أن عمر بن الخطاب سأل عن آية من كتاب الله فقيل‏:‏ كانت مع فلان فقتل يوم اليمامة، فقال‏:‏ إنا لله، فأمر بالقرآن فجمع فكان أول من جمعه في المصحف‏.‏

هذا منقطع، فإن الحسن لم يدرك عمر، ومعناه‏:‏ أشار بجمعه فجمع؛ ولهذا كان مهيمنا على حفظه وجمعه كما رواه ابن أبي داود حيث قال‏:‏ حدثنا أبو الطاهر حدثنا ابن وهب، حدثنا عمر بن طلحة الليثي، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، أن عمر لما جمع القرآن كان لا يقبل من أحد شيئا حتى يشهد شاهدان‏.‏

وذلك عن أمر الصديق له في ذلك، كما قال أبو بكر بن أبي داود‏:‏ حدثنا أبو الطاهر، حدثنا ابن وهب، أخبرني ابن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال‏:‏ لما استحر القتل بالقراء يومئذ فرق أبو بكر، رضي الله عنه، أن يضيع، فقال لعمر بن الخطاب ولزيد بن ثابت‏:‏ فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه‏.‏ منقطع حسن‏.‏

ولهذا قال زيد بن ثابت‏:‏ وجدت آخر سورة التوبة، يعني قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ‏}‏ إلى آخر الآيتين ‏[‏التوبة‏:‏ 128، 129‏]‏، مع أبي خزيمة الأنصاري، وفي رواية‏:‏ مع خزيمة بن ثابت الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادتين لم أجدها مع غيره فكتبوها عنه لأنه جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادتين في قصة الفرس التي ابتاعها رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأعرابي، فأنكر الأعرابي البيع، فشهد خزيمة هذا بتصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمضى شهادته وقبض الفرس من الأعرابي‏.‏ والحديث رواه أهل السنن وهو مشهور، وروى أبو جعفر الرازي عن الربيع عن أبي العالية أن أبيّ بن كعب أملاها عليهم مع خزيمة بن ثابت‏.‏

وقد روى ابن وهب عن عمرو بن طلحة الليثي، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن يحيى ابن عبد الرحمن بن حاطب؛ أن عثمان شهد بذلك أيضًا‏.‏

وأما قول زيد ‏[‏بن ثابت‏]‏ ‏"‏فتتبعت القرآن أجمعه من العُسُب واللِّخاف وصدور الرجال‏"‏ وفي رواية‏:‏ ‏"‏من العسب والرِّقَاع والأضلاع، وفي رواية‏:‏ ‏"‏من الأكتاف والأقتاب وصدور الرجال‏"‏‏.‏

أما العُسُب فجمع عسيب‏.‏ قال أبو النصر إسماعيل بن حماد الجوهري‏:‏ وهو من السعف فويق الكَرَب لم ينبت عليه الخوص، وما نبت عليه الخوص فهو السعف‏.‏

واللِّخاف‏:‏ جمع لَخْفَة وهي القطعة من الحجارة مستدقة، كانوا يكتبون عليها وعلى العسب وغير ذلك، مما يمكنهم الكتابة عليه مما يناسب ما يسمعونه من القرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

ومنهم من لم يكن يحسن الكتابة أو يثق بحفظه، فكان يحفظه، فتلقاه زيد بن ثابت من هذا من عسيبه، ومن هذا من لخافه، ومن صدر هذا، أي من حفظه، وكانوا أحرص شيء على أداء الأمانات وهذا من أعظم الأمانة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أودعهم ذلك ليبلغوه إلى من بعده كما قال ‏[‏الله‏]‏ تعالى‏:‏ ‏{‏يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 67‏]‏، ففعل، صلوات الله وسلامه عليه، ما أمر به؛ ولهذا سألهم في حجة الوداع يوم عرفة على رؤوس الأشهاد، والصحابة أوفر ما كانوا مجتمعين، فقال‏:‏ ‏"‏إنكم مسؤولون عني فما أنتم قائلون‏؟‏‏"‏‏.‏ فقالوا‏:‏ نشهد أنك قد بَلَّغت وأدَّيت ونصحت، فجعل يشير بأصبعه إلى السماء، وينكبها عليهم ويقول‏:‏ ‏"‏اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد‏"‏‏.‏ رواه مسلم عن جابر‏.‏ وقد أمر أمته أن يبلغ الشاهد الغائب وقال‏:‏ ‏"‏بَلِّغوا عني ولو آية‏"‏ يعني‏:‏ ولو لم يكن مع أحدكم سوى آية واحدة فليؤدها إلى من وراءه، فبلَّغوا عنه ما أمرهم به، فأدوا القرآن قرآنا، والسنة سنة، لم يلبسوا هذا بهذا؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏من كتب عني سوى القرآن فليمحه‏"‏ أي‏:‏ لئلا يختلط بالقرآن، وليس معناه‏:‏ ألا يحفظوا السنة ويرووها، والله أعلم‏.‏

فلهذا نعلم بالضرورة أنه لم يبق من القرآن مما أداه الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم إلا وقد بلغوه إلينا، ولله الحمد والمنة، فكان الذي فعله الشيخان أبو بكر وعمر، رضي الله عنهما، من أكبر المصالح الدينية وأعظمها، من حفظهما كتاب الله في الصحف؛ لئلا يذهب منه شيء بموت من تلقاه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم كانت تلك الصحف عند الصديق أيام حياته، ثم أخذها عمر بعده محروسة معظمة مكرمة، فلما مات كانت عند حفصة أم المؤمنين، رضي الله عنها، حتى أخذها منها أمير المؤمنين عثمان بن عفان، رضي الله عنه، كما سنذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

قال البخاري، رحمه الله‏:‏ حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا إبراهيم، حدثنا ابن شهاب، عن أنس بن مالك، حدثه أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان بن عفان رضي الله عنهما وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة‏.‏ فقال حذيفة لعثمان‏:‏ يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى‏.‏ فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلى إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة‏:‏ إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما أنزل بلسانهم‏.‏ ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في محل صحيفة أو مصحف أن يحرق‏.‏ قال ابن شهاب الزهري‏:‏ فأخبرني خارجة بن زيد بن ثابت‏:‏ سمع زيد بن ثابت قال‏:‏ فقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف قد كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها، التمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري‏:‏ ‏{‏مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 23‏]‏، فألحقناها في سورتها في المصحف‏.‏

وهذا -أيضا- من أكبر مناقب أمير المؤمنين عثمان بن عفان، رضي الله عنه، فإن الشيخين سبقاه إلى حفظ القرآن أن يذهب منه شيء وهو جمع الناس على قراءة واحدة؛ لئلا يختلفوا في القرآن، ووافقه على ذلك جميع الصحابة، وإنما روي عن عبد الله بن مسعود شيء من التغضب بسبب أنه لم يكن ممن كتب المصاحف وأمر أصحابه بغل مصاحفهم لما أمر عثمان بحرقه ماعدا المصحف الإمام، ثم رجع ابن مسعود إلى الوفاق حتى قال علي بن أبي طالب، رضي الله عنه‏:‏ لو لم يفعل ذلك عثمان لفعلته أنا‏.‏ فاتفق الأئمة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، رضي الله عنهم، على أن ذلك من مصالح الدين، وهم الخلفاء الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي‏"‏‏.‏ وكان السبب في هذا حذيفة بن اليمان، رضي الله عنه لما كان غازيا في فتح أرمينية وأذربيجان، وكان قد اجتمع هناك أهل الشام والعراق وجعل حذيفة يسمع منهم قراءات على حروف شتى، ورأى منهم اختلافا وافتراقا، فلما رجع إلى عثمان أعلمه وقال لعثمان‏:‏ أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى‏.‏

وذلك أن اليهود والنصارى مختلفون فيما بأيديهم من الكتب، فاليهود بأيديهم نسخة من التوراة، والسامرة يخالفونهم في ألفاظ كثيرة ومعان أيضا، وليس في توراة السامرة حرف الهمزة ولا حرف الياء، والنصارى -أيضا- بأيديهم توراة يسمونها العتيقة وهي مخالفة لنسختي اليهود والسامرة، وأما الأناجيل التي بأيدي النصارى فأربعة‏:‏ إنجيل مرقس، وإنجيل لوقا وإنجيل متى، وإنجيل يوحنا، وهي مختلفة -أيضا- اختلافا كثيرا، وهذه الأناجيل الأربعة كل منها لطيف الحجم منها ما هو قريب من أربع عشرة ورقة بخط متوسط، ومنها ما هو أكثر من ذلك إما بالنصف أو بالضعف، ومضمونها سيرة عيسى وأيامه وأحكامه وكلامه وفيه شيء قليل مما يدعون أنه كلام الله، وهي مع هذا مختلفة، كما قلنا، وكذلك التوراة مع ما فيها من التبديل والتحريف، ثم هما منسوخان بعد ذلك بهذه الشريعة المحمدية المطهرة‏.‏

فلما قال حذيفة لعثمان ذلك أفزعه وأرسل إلى حفصة أم المؤمنين أن ترسل إليه بالصحف التي عندها مما جمعه الشيخان ليكتب ذلك في مصحف واحد، وينفذه إلى الآفاق، ويجمع الناس على القراءة به وترك ما سواه، ففعلت حفصة وأمر عثمان هؤلاء الأربعة وهم زيد بن ثابت الأنصاري، أحد كتاب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وعبد الله بن الزبير بن العوام القرشي الأسدي، أحد فقهاء الصحابة ونجبائهم علما وعملا وأصلا وفضلا وسعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية القرشي الأموي، وكان كريما جوادا ممدحا، وكان أشبه الناس لهجة برسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي، فجلس هؤلاء النفر يكتبون القرآن نسخا، وإذا اختلفوا في وضع الكتابة على أي لغة رجعوا إلى عثمان، كما اختلفوا في التابوت أيكتبونه بالتاء والهاء، فقال زيد بن ثابت‏:‏ إنما هو التابوه وقال الثلاثة القرشيون‏:‏ إنما هو التابوت فتراجعوا إلى عثمان فقال‏:‏ اكتبوه بلغة قريش، فإن القرآن نزل بلغتهم‏.‏

وكان عثمان -والله أعلم- رتب السور في المصحف، وقدم السبع الطوال وثنى بالمئين؛ ولهذا روى ابن جرير وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث غير واحد من الأئمة الكبار، عن عوف الأعرابي، عن يزيد الفارسي، عن ابن عباس قال‏:‏ قلت لعثمان بن عفان‏:‏ ما حملكم أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين، فقرنتم بينها ولم تكتبوا بينها سطر ‏"‏بسم الله الرحمن الرحيم‏"‏، ووضعتموها في السبع الطوال‏؟‏ ما حملكم على ذلك‏؟‏ فقال عثمان‏:‏ كان رسول الله مما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول‏:‏ ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، فإذا أنزلت عليه الآية فيقول‏:‏ ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وكانت الأنفال من أول ما نزل بالمدينة، وكانت براءة من آخر القرآن، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، وحسبت أنها منها وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر ‏"‏بسم الله الرحمن الرحيم‏"‏ فوضعتها في السبع الطوال‏.‏

ففهم من هذا الحديث أن ترتيب الآيات والسور أمر توقيفي متلقى عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وأما ترتيب السور فمن أمير المؤمنين عثمان بن عفان، رضي الله عنه؛ ولهذا ليس لأحد أن يقرأ القرآن إلا مرتبا؛ فإن نكسه أخطأ خطأ كبيرا‏.‏ وأما ترتيب السور فمستحب اقتداء بعثمان، رضي الله عنه، والأولى إذا قرأ أن يقرأ متواليا كما قرأ، عليه الصلاة والسلام، في صلاة الجمعة بسورة الجمعة والمنافقين وتارة بسبح وهل أتاك حديث الغاشية، فإن فرق جاز، كما صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في العيد بقاف واقتربت الساعة، رواه مسلم عن أبي واقد في الصحيحين عن أبي هريرة، رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة‏:‏ الم السجدة، وهل أتى على الإنسان‏.‏

وإن قدم بعض السور على بعض جاز أيضا، فقد روى حذيفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ البقرة ثم النساء ثم آل عمران‏.‏ أخرجه مسلم‏.‏

وقرأ عمر في الفجر بسورة النحل ثم بيوسف‏.‏ ثم إن عثمان رد الصحف إلى حفصة، فلم تزل عندها حتى أرسل إليها مروان بن الحكم يطلبها فلم تعطه حتى ماتت، فأخذها من عبد الله بن عمر فحرقها لئلا يكون فيها شيء يخالف المصاحف التي نفذها عثمان إلى الآفاق، مصحفا إلى أهل مكة، ومصحفا إلى البصرة، وآخر إلى الكوفة، وآخر إلى الشام، وآخر إلى اليمن، وآخر إلى البحرين، وترك عند أهل المدينة مصحفا، رواه أبو بكر بن أبي داود عن أبي حاتم السجستاني، سمعه يقوله‏.‏ وصحح القرطبي أنه إنما نفذ إلى الآفاق أربعة مصاحف‏.‏ وهذا غريب، وأمر بما عدا ذلك من مصاحف الناس أن يحرق لئلا تختلف قراءات الناس في الآفاق، وقد وافقه الصحابة في عصره على ذلك ولم ينكره أحد منهم، وإنما نقم عليه ذلك أولئك الرهط الذين تمالؤوا عليه وقتلوه، قاتلهم الله، وفي ذلك جملة ما أنكروه مما لا أصل له، وأما سادات المسلمين من الصحابة، ومن نشأ في عصرهم ذلك من التابعين، فكلهم وافقوه‏.‏

قال أبو داود الطيالسي وابن مهدي وغُنْدَر عن شعبة، عن عَلْقَمة بن مَرْثَد، عن رجل، عن سُوَيد بن غفلة، قال عليّ حين حرق عثمان المصاحف‏:‏ لو لم يصنعه هو لصنعته‏.‏

وقال أبو بكر بن أبي داود‏:‏ حدثنا أحمد بن سِنَان، حدثنا عبد الرحمن، حدثنا شعبة عن أبي إسحاق عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص، قال‏:‏ أدركت الناس متوافرين حين حرق عثمان المصاحف فأعجبهم ذلك، أو قال‏:‏ لم ينكر ذلك منهم أحد‏.‏ وهذا إسناد صحيح‏.‏

وقال أيضا‏:‏ حدثنا إسحاق بن إبراهيم الصواف، حدثنا يحيى بن كثير، حدثنا ثابت بن عمارة الحنفي، قال‏:‏ سمعت غنيم بن قيس المازني قال‏:‏ قرأت القرآن على الحرفين جميعا، والله ما يسرني أن عثمان لم يكتب المصحف، وأنه ولد لكل مسلم كلما أصبح غلام، فأصبح له مثل ماله‏.‏ قال‏:‏ قلنا له‏:‏ يا أبا العنبر، ولم‏؟‏ قال‏:‏ لو لم يكتب عثمان المصحف لطفق الناس يقرؤون الشعر‏.‏

حدثنا يعقوب بن سفيان، حدثنا محمد بن عبد الله، حدثني عمران بن حدير، عن أبي مِجْلَز قال‏:‏ لولا أن عثمان كتب القرآن لألفيت الناس يقرؤون الشعر‏.‏ حدثنا أحمد بن سنان قال‏:‏ سمعت ابن مهدي يقول‏:‏ خصلتان لعثمان بن عفان ليستا لأبي بكر ولا لعمر‏:‏ صبره نفسه حتى قتل مظلومًا، وجمعه الناس على المصحف‏.‏

وأما عبد الله بن مسعود فقد قال إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن حميد بن مالك قال‏:‏ لما أمر عثمان بالمصاحف -يعني بتحريقها- ساء ذلك عبد الله بن مسعود وقال‏:‏ من استطاع منكم أن يغلَّ مصحفًا فليغلل، فإنه من غلَّ شيئًا جاء بما غل يوم القيامة‏.‏

ثم قال عبد الله‏:‏ لقد قرأت القرآن من فِي رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة وزيد صبي، أفأترك ما أخذت من فِي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال أبو بكر‏:‏ حدثنا عبد الله بن محمد بن النعمان، حدثنا سعيد بن سليمان حدثتا ابن شهاب، عن الأعمش، عن أبي وائل، قال‏:‏ خطبنا ابن مسعود على المنبر فقال‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 161‏]‏، غلوا مصاحفكم، وكيف تأمروني أن أقرأ على قراءة زيد بن ثابت، وقد قرأت القرآن من فِي رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعا وسبعين سورة، وإن زيد بن ثابت ليأتي مع الغلمان له ذؤابتان، والله ما نزل من القرآن شيء إلا وأنا أعلم في أي شيء نزل، وما أحد أعلم بكتاب الله مني، وما أنا بخيركم، ولو أعلم مكانا تبلغه الإبل أعلم بكتاب الله مني لأتيته‏.‏ قال أبو وائل‏:‏ فلما نزل عن المنبر جلست في الحلق، فما أحد ينكر ما قال‏.‏ أصل هذا مخرج في الصحيحين وعندهما‏:‏ ولقد علم أصحاب محمد أني أعلمهم بكتاب الله‏.‏ وقول أبي وائل‏:‏ ‏"‏فما أحد ينكر ما قال‏"‏، يعني‏:‏ من فضله وعلمه وحفظه، والله أعلم‏.‏

وأما أمره بغَلّ المصاحف وكتمانها، فقد أنكره عليه غير واحد‏.‏ قال الأعمش عن إبراهيم، عن علقمة، قال‏:‏ قدمت الشام فلقيت أبا الدرداء، فقال‏:‏ كنا نعد عبد الله جبانا فما باله يواثب الأمراء‏.‏ وقال أبو بكر بن أبي داود‏:‏ باب رضا عبد الله بن مسعود بجمع عثمان المصاحف بعد ذلك‏:‏ حدثنا عبد الله بن سعيد ومحمد بن عثمان العجلي قالا حدثنا أبو أسامة، حدثني الوليد بن قيس، عن عثمان بن حسان العامري، عن فُلفُلة الجعفي قال‏:‏ فزعت فيمن فزع إلى عبد الله في المصاحف، فدخلنا عليه، فقال رجل من القوم‏:‏ إنا لم نأتك زائرين، ولكنا جئنا حين راعنا هذا الخبر، فقال‏:‏ إن القرآن أنزل على نبيكم من سبعة أبواب، على سبعة أحرف -أو حروف- وإن الكتاب قبلكم كان ينزل -أو نزل- من باب واحد على حرف واحد‏.‏ وهذا الذي استدل به أبو بكر، رحمه الله، على رجوع ابن مسعود فيه نظر، من جهة أنه لا يظهر من هذا اللفظ رجوع عما كان يذهب إليه، والله أعلم‏.‏

وقال أبو بكر أيضا‏:‏ حدثنا عمي، حدثنا أبو رجاء، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن مصعب بن سعد قال‏:‏ قام عثمان فخطب الناس فقال‏:‏ ‏[‏يا‏]‏ أيها الناس عهدكم بنبيكم منذ ثلاث عشرة وأنتم تمترون في القرآن، وتقولون‏:‏ قراءة أبي وقراءة عبد الله، يقول الرجل‏:‏ والله ما تقيم قراءتك، وأعزم على كل رجل منكم ما كان معه من كتاب الله لما جاء به، فكان الرجل يجيء بالورقة والأديم فيه القرآن حتى جمع من ذلك كثرة، ثم دخل عثمان فدعاهم رجلا رجلا فناشدهم‏:‏ لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أمله عليك فيقول‏:‏ نعم، فلما فرغ من ذلك عثمان قال‏:‏ من أكتَبُ الناس‏؟‏ قالوا‏:‏ كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت‏.‏ قال‏:‏ فأي الناس أعرب‏؟‏ قالوا‏:‏ سعيد بن العاص‏.‏ قال عثمان‏:‏ فليمْل سعيد، وليكتب زيد‏.‏ فكتب زيد مصاحف ففرقها في الناس، فسمعت بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون قد أحسن‏.‏ إسناده صحيح‏.‏

وقال أيضا‏:‏ حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن زيد، حدثنا أبو بكر، حدثنا هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن كثير بن أفلح قال‏:‏ لما أراد عثمان أن يكتب المصاحف جمع له اثني عشر رجلا من قريش والأنصار، فيهم أبيّ بن كعب وزيد بن ثابت، قال‏:‏ فبعثوا إلى الربعة التي في بيت عمر فجيء بها، قال‏:‏ وكان عثمان يتعاهدهم، وكانوا إذا تدارؤوا في شيء أخره‏.‏ قال محمد‏:‏ فقلت لكثير -وكان فيهم فيمن يكتب-‏:‏ هل تدرون لم كانوا يؤخرونه‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قال محمد‏:‏ فظننت ظنا إنما كانوا يؤخرونها لينظروا أحدثهم عهدا بالعرضة الأخيرة فيكتبونها على قوله‏.‏ صحيح أيضا‏.‏

قلت‏:‏ الربعة هي الكتب المجتمعة، وكانت عند حفصة، رضي الله عنها، فلما جمعها عثمان، رضي الله عنه، في المصحف، ردها إليها، ولم يحرقها في جملة ما حرقه مما سواها، إلا أنها هي بعينها الذي كتبه، وإنما رتبه، ثم إنه كان قد عاهدها على أن يردها إليها، فما زالت عندها حتى ماتت، ثم أخذها مروان بن الحكم فحرقها وتأول في ذلك ما تأول عثمان، كما رواه أبو بكر بن أبي داود‏:‏

حدثنا محمد بن عوف، حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب، عن الزهري، أخبرني سالم بن عبد الله‏:‏ أن مروان كان يرسل إلى حفصة يسألها الصحف التي كتب منها القرآن، فتأبى حفصة أن تعطيه إياها‏.‏ قال سالم‏:‏ فلما توفيت حفصة ورجعنا من دفنها أرسل مروان بالعزيمة إلى عبد الله بن عمر ليرسلن إليه بتلك الصحف، فأرسل بها إليه عبد الله بن عمر فأمر بها مروان فشققت، وقال مروان‏:‏ إنما فعلت هذا لأن ما فيها قد كتب وحفظ بالمصحف، فخشيت إن طال بالناس زمان أن يرتاب في شأن هذه الصحف مرتاب أو يقول‏:‏ إنه كان شيء منها لم يكتب‏.‏ إسناد صحيح‏.‏

وأما ما رواه الزهري عن خارجة عن أبيه في شأن آية الأحزاب وإلحاقهم إياها في سورتها، فذكره لهذا بعد جمع عثمان فيه نظر، وإنما هذا كان حال جمع الصديق الصحف كما جاء مصرحًا به في غير هذه الرواية عن الزهري، عن عبيد بن السباق، عن زيد بن ثابت، والدليل على ذلك أنه قال‏:‏ ‏"‏فألحقناها في سورتها من المصحف‏"‏ وليست هذه الآية ملحقة في الحاشية في المصاحف العثمانية‏.‏ فهذه الأفعال من أكبر القربات التي بادر إليها الأئمة الراشدون أبو بكر وعمر، رضي الله عنهما، حفظا على الناس القرآن، جمعاه لئلا يذهب منه شيء، وعثمان، رضي الله عنه، جمع قراءات الناس على مصحف واحد ووضعه على العرضة الأخيرة التي عارض بها جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر رمضان من عمره، عليه الصلاة والسلام، فإنه عارضه به عامئذ مرتين؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاطمة ابنته لما مرض‏:‏ ‏"‏وما أرى ذلك إلا لاقتراب أجلي‏"‏‏.‏ أخرجاه في الصحيحين‏.‏

وقد روي أن عليًا، رضي الله عنه، أراد أن يجمع القرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتبا بحسب نزوله أولا فأولا كما رواه ابن أبي داود حيث قال‏:‏ حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي، حدثنا ابن فضيل، عن أشعث، عن محمد بن سيرين قال‏:‏ لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم أقسم علي ألا يرتدي برداء إلا لجمعة حتى يجمع القرآن في مصحف ففعل، فأرسل، إليه أبو بكر، رضي الله عنه، بعد أيام‏:‏ أكرهت إمارتي يا أبا الحسن‏؟‏ فقال‏:‏ لا والله إلا أني أقسمت ألا أرتدي برداء إلا لجمعة‏.‏ فبايعه ثم رجع‏.‏ هكذا رواه وفيه انقطاع، ثم قال‏:‏ لم يذكر المصحف أحد إلا أشعث وهو لين الحديث وإنما رووا حتى أجمع القرآن، يعني أتم حفظه، فإنه يقال للذي يحفظ القرآن‏:‏ قد جمع القرآن‏.‏

قلت‏:‏ وهذا الذي قاله أبو بكر أظهر، والله أعلم، فإن عليا لم ينقل عنه مصحف على ما قيل ولا غير ذلك، ولكن قد توجد مصاحف على الوضع العثماني، يقال‏:‏ إنها بخط علي، رضي الله عنه، وفي ذلك نظر، فإنه في بعضها‏:‏ كتبه علي بن أبي طالب، وهذا لحن من الكلام؛ وعلي، رضي الله عنه، من أبعد الناس عن ذلك فإنه كما هو المشهور عنه هو أول من وضع علم النحو، فيما رواه عنه أبو الأسود ظالم بن عمرو الدؤلي، وأنه قسم الكلام إلى اسم وفعل وحرف، وذكر أشياء أخر تممها أبو الأسود بعده، ثم أخذه الناس عن أبي الأسود فوسعوه ووضحوه، وصار علما مستقلا‏.‏

وأما المصاحف العثمانية الأئمة فأشهرها اليوم الذي في الشام بجامع دمشق عند الركن شرقي المقصورة المعمورة بذكر الله، وقد كانت قديمًا بمدينة طبرية ثم نقل منها إلى دمشق في حدود ثمان عشرة وخمسمائة، وقد رأيته كتابا عزيزا جليلا عظيما ضخما بخط حسن مبين قوي بحبر محكم في رق أظنه من جلود الإبل، والله أعلم، زاده الله تشريفا وتكريما وتعظيما‏.‏

فأما عثمان، رضي الله عنه، فما يعرف أنه كتب بخطه هذه المصاحف، وإنما كتبها زيد بن ثابت في أيامه، ربما وغيره، فنسبت إلى عثمان لأنها بأمره وإشارته، ثم قرئت على الصحابة بين يدي عثمان، ثم نفذت إلى الآفاق، رضي الله عنه، وقد قال أبو بكر بن أبي داود‏:‏

حدثنا علي بن حرب الطائي، حدثنا قريش بن أنس، حدثنا سليمان التيمي، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد مولى بني أسيد، قال‏:‏ لما دخل المصريون على عثمان ضربوه بالسيف على يده فوقعت على‏:‏ ‏{‏فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 137‏]‏، فمد يده فوقعت‏:‏ والله إنها لأول يد خطت المفصل‏.‏

وقال أيضا‏:‏ حدثنا أبو طاهر، حدثنا ابن وهب قال‏:‏ سألت مالكا عن مصحف عثمان، فقال لي‏:‏ ذَهَب‏.‏ يحتمل أنه سأله عن المصحف الذي كتبه بيده، ويحتمل أن يكون سأله عن المصحف الذي تركه في المدينة، والله أعلم‏.‏

قلت‏:‏ وقد كانت الكتابة في العرب قليلة جدًا، وإنما أول ما تعلموا ذلك ما ذكره هشام بن محمد بن السائب الكلبي وغيره‏:‏ أن بشر بن عبد الملك أكيدر دومة تعلم الخط من الأنبار، ثم قدم مكة فتزوج الصهباء بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية فعلمه حرب بن أمية وابنه سفيان، وتعلمه عمر بن الخطاب من حرب بن أمية، وتعلمه معاوية من عمه سفيان بن حرب، وقيل‏:‏ إن أول من تعلمه من الأنبار قوم من طيئ من قرية هناك يقال لها‏:‏ بقة، ثم هذبوه ونشروه في جزيرة العرب فتعلمه الناس‏.‏ ولهذا قال أبو بكر بن أبي داود‏:‏ حدثنا عبد الله بن محمد الزهري، حدثنا سفيان عن مجاهد عن الشعبي قال‏:‏ سألنا المهاجرين من أين تعلمتم الكتابة‏؟‏ قالوا‏:‏ من أهل الحيرة‏.‏ وسألنا أهل الحيرة‏:‏ من أين تعلمتم الكتابة‏؟‏ قالوا‏:‏ من أهل الأنبار‏.‏

قلت‏:‏ والذي كان يغلب على زمان السلف الكتابة المكتوفة ثم هذبها أبو علي مقلة الوزير، وصار له في ذلك منهج وأسلوب في الكتابة، ثم قربها علي بن هلال البغدادي المعروف بابن البواب وسلك الناس وراءه‏.‏ وطريقته في ذلك واضحة جيدة‏.‏ والغرض أن الكتابة لما كانت في ذلك الزمان لم تحكم جيدا، وقع في كتابة المصاحف اختلاف في وضع الكلمات من حيث صناعة الكتابة لا من حيث المعنى، وصنف الناس في ذلك، واعتنى بذلك الإمام الكبير أبو عبيد القاسم بن سلام، رحمه الله، في كتابه فضائل القرآن والحافظ أبو بكر بن أبي داود، رحمه الله، فبوبا على ذلك وذكر قطعة صالحة هي من صناعة القرآن، ليست مقصدنا هاهنا؛ ولهذا نص الإمام مالك، رحمه الله، على أنه لا توضع المصاحف إلا على وضع كتابة الإمام، ورخص في ذلك غيره، واختلفوا في الشكل والنقط فمن مرخص ومن مانع، فأما كتابة السور وآياتها والتعشير والأجزاء والأحزاب فكثير في مصاحف زماننا، والأولى اتباع السلف الصالح‏.‏

ثم قال البخاري‏:‏ ذكر كُتَّاب النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وأورد فيه من حديث الزهري، عن ابن السباق، عن زيد ابن ثابت، أن أبا بكر الصديق قال له‏:‏ وكنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر نحو ما تقدم في جمعه للقرآن وقد تقدم، وأورد حديث زيد بن ثابت في نزول‏:‏ ‏{‏لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 95‏]‏ وسيأتي الكلام عليه في سورة النساء إن شاء الله تعالى، ولم يذكر البخاري أحدًا من الكتّاب في هذا الباب سوى زيد بن ثابت، وهذا عجب، وكأنه لم يقع له حديث يورده سوى هذا، والله أعلم‏.‏ وموضع هذا في كتاب السيرة عند ذكر كتَّابه عليه السلام‏.‏

ثم قال البخاري، رحمه الله‏:‏ أنزل القرآن على سبعة أحرف، حدثنا سعيد بن عفير، حدثنا الليث، حدثني عقيل عن ابن شهاب قال‏:‏ حدثني عبيد الله بن عبد الله؛ أن عبد الله بن عباس حدثه‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏أقرأني جبريل على حرف فراجعته، فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف‏"‏‏.‏

وقد رواه -أيضًا- في بدء الخلق، ومسلم من حديث يونس، ومسلم -أيضا- من حديث معمر، كلاهما عن الزهري بنحوه ورواه ابن جرير من حديث الزهري به ثم قال الزهري‏:‏ بلغني أن تلك السبعة الأحرف إنما هي في الأمر الذي يكون واحدا لا تختلف في حلال ولا في حرام‏.‏ وهذا مبسوط في الحديث الذي رواه الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام حيث قال‏:‏

حدثنا يزيد ويحيى بن سعيد كلاهما عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك، عن أبيّ بن كعب قال‏:‏ ما حاك في صدري شيء منذ أسلمت، إلا أنني قرأت آية وقرأها آخر غير قراءتي فقلت‏:‏ أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت‏:‏ يا رسول الله، أقرأتني آية كذا وكذا‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏نعم‏"‏، وقال الآخر‏:‏ أليس تقرأني آية كذا وكذا‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏نعم‏"‏‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏إن جبريل وميكائيل أتياني فقعد جبريل عن يميني وميكائيل عن يساري، فقال جبريل‏:‏ اقرأ القرآن على حرف، فقال ميكائيل‏:‏ استزده، حتى بلغ سبعة أحرف وكل حرف شاف كاف‏"‏‏.‏

وقد رواه النسائي من حديث يزيد -وهو ابن هارون- ويحيى بن سعيد القطان كلاهما عن حميد الطويل، عن أنس، عن أبيّ بن كعب بنحوه‏.‏ وكذا رواه ابن أبي عدي ومحمود بن ميمون الزعفراني ويحيى بن أيوب كلهم عن حميد به‏.‏ وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا محمد بن مرزوق، حدثنا أبو الوليد، حدثنا حماد بن سلمة، عن حميد، عن أنس، عن عبادة بن الصامت، عن أبيّ بن كعب قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أنزل القرآن على سبعة أحرف‏"‏ فأدخل بينهما عبادة بن الصامت‏.‏

وقال الإمام أحمد بن حنبل، رحمه الله‏:‏ حدثنا يحيى بن سعيد عن إسماعيل بن أبي خالد، حدثني عبد الله بن عيسى عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبيّ بن كعب، قال‏:‏ كنت في المسجد فدخل رجل فقرأ قراءة أنكرتها عليه، ثم دخل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه، فقمنا جميعا، فدخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت‏:‏ يا رسول الله، إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه، ثم دخل هذا فقرأ قراءة غير قراءة صاحبه، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏اقرآ‏"‏، فقرآ، فقال‏:‏ ‏"‏أصبتما‏"‏‏.‏ فلما قال لهما النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال، كَبُر عليّ ولا إذا كنت في الجاهلية، فلما رأى الذي غشينى ضرب في صدري ففضضت عرقًا، وكأنما أنظر إلى ‏[‏رسول‏]‏ الله فرقا فقال‏:‏ ‏"‏يا أبيّ، إن ربي أرسل إليّ أن اقرأ القرآن على حرف، فرددت إليه أن هون على أمتي، فأرسل إليّ أن اقرأه على حرفين، فرددت إليه أن هوّن على أمتي، فأرسل إليّ أن اقرأه على سبعة أحرف، ولك بكل ردة مسألة تسألنيها‏"‏‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏قلت‏:‏ اللهم اغفر لأمتي، اللهم اغفر لأمتي، وأخرت الثالثة ليوم يرغب إليّ فيه الخلق حتى إبراهيم عليه السلام‏"‏‏.‏ وهكذا رواه مسلم من حديث إسماعيل بن أبي خالد به‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا محمد بن فضيل، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبيه، عن جده، عن أبي بن كعب، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن الله أمرني أن أقرأ القرآن على حرف واحد، فقلت‏:‏ خفف عن أمتي، فقال اقرأه على حرفين، فقلت‏:‏ اللهم ربّ خفف عن أمتي، فأمرني أن أقرأه على سبعة أحرف من سبعة أبواب الجنة كلها شافٍ كافٍ‏"‏‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا يونس عن ابن وهب‏:‏ أخبرني هشام بن سعد، عن عبيد الله بن عمر، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبيّ بن كعب، أنه قال‏:‏ سمعت رجلا يقرأ في سورة النحل قراءة تخالف قراءتي، ثم سمعت آخر يقرؤها بخلاف ذلك، فانطلقت بهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت‏:‏ إني سمعت هذين يقرآن في سورة النحل فسألتهما‏:‏ من أقرأكما‏؟‏ فقالا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت‏:‏ لأذهبن بكما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ خالفتما ما أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحدهما‏:‏ ‏"‏اقرأ‏"‏‏.‏ فقرأ، فقال‏:‏ ‏"‏أحسنت‏"‏ ثم قال للآخر‏:‏ ‏"‏اقرأ‏"‏‏.‏ فقرأ، فقال‏:‏ ‏"‏أحسنت‏"‏‏.‏ قال أبيّ‏:‏ فوجدت في نفسي وسوسة الشيطان حتى احمر وجهي، فعرف ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهي، فضرب يده في صدري ثم قال‏:‏ ‏"‏اللهم أخسئ الشيطان عنه، يا أبيّ، أتاني آت من ربي فقال‏:‏ إن الله يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد، فقلت‏:‏ رب، خفف عني، ثم أتاني الثانية فقال‏:‏ إن الله يأمرك أن تقرأ القرآن على حرفين فقلت‏:‏ رب، خفف عن أمتي، ثم أتاني الثالثة، فقال‏:‏ مثل ذلك وقلت له مثل ذلك، ثم أتاني الرابعة فقال‏:‏ إن الله يأمرك أن تقرأ القرآن على سبعة أحرف، ولك بكل ردة مسألة، فقلت‏:‏ يارب، اللهم اغفر لأمتي، يارب، اغفر لأمتي، واختبأت الثالثة شفاعة لأمتي يوم القيامة‏"‏‏.‏ إسناده صحيح‏.‏

قلت‏:‏ وهذا الشك الذي حصل لأبيّ في تلك الساعة هو، والله أعلم، السبب الذي لأجله قرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءة إبلاغ وإعلام ودواء لما كان حصل له سورة ‏{‏لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ إلى آخرها لاشتمالها على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏ 2، 3‏]‏، وهذا نظير تلاوته سورة الفتح حين أنزلت مرجعه، عليه السلام، من الحديبية على عمر بن الخطاب، وذلك لما كان تقدم له من الأسئلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبي بكر الصديق، رضي الله عنهما، في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 27‏]‏‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن أبي ليلى، عن أبيّ بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عند أخباة بني غفار، فأتاه جبريل فقال‏:‏ إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف، قال‏:‏ ‏"‏أسأل الله معافاته ومغفرته، فإن أمتي لا تطيق ذلك‏"‏‏.‏ ثم أتاه الثانية فقال‏:‏ إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرفين‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏أسأل الله معافاته ومغفرته، فإن أمتي لا تطيق ذلك‏"‏‏.‏ ثم جاءه الثالثة قال‏:‏ إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف قال‏:‏ ‏"‏أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك‏"‏‏.‏ ثم جاءه الرابعة فقال‏:‏ إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على سبعة أحرف فأيما حرف قرؤوا عليه فقد أصابوا‏.‏

وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي من رواية شعبة به، وفي لفظٍ لأبي داود عن أبيّ بن كعب قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يا أبيّ، إني أقرئت القرآن فقيل لي‏:‏ على حرف أو حرفين‏؟‏ فقال الملك الذي معي‏:‏ قل على حرفين‏.‏ قلت‏:‏ على حرفين‏.‏ فقيل لي‏:‏ على حرفين أو ثلاثة‏؟‏ فقال الملك الذي معي‏:‏ قل على ثلاثة‏.‏ قلت‏:‏ على ثلاثة‏.‏ حتى بلغ سبعة أحرف ثم قال‏:‏ ليس منها إلا شاف كاف إن قلت‏:‏ سميعا عليما، عزيزا حكيما، ما لم تختم آية عذاب برحمة أو آية رحمة بعذاب‏"‏‏.‏

وقد روى ثابت بن قاسم نحوا من هذا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ومن كلام ابن مسعود، رضي الله عنه، نحو ذلك‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا حسين بن علي الجعفي، عن زائدة، عن عاصم، عن زر، عن أبي قال‏:‏ لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عند أحجار المراء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل‏:‏ ‏"‏إني بعثت إلى أمة أميين فيهم الشيخ العاسي، والعجوز الكبيرة، والغلام، فقال‏:‏ مرهم فليقرؤوا القرآن على سبعة أحرف‏"‏‏.‏

وأخرجه الترمذي من حديث عاصم بن أبي النَّجُود، عن زر، عن أبيّ بن كعب، به وقال‏:‏ حسن صحيح‏.‏

وقد رواه أبو عبيد عن أبي النضر، عن شيبان، عن عاصم بن أبي النجود، عن زر، عن حذيفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي جبريل عند أحجار المراء، فذكر الحديث والله أعلم‏.‏

وهكذا رواه الإمام أحمد عن عفان، عن حماد، عن عاصم، عن زر، عن حذيفة‏؟‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏لقيت جبريل عند أحجار المراء، فقلت‏:‏ يا جبريل، إني أرسلت إلى أمة أمية؛ الرجل، والمرأة، والغلام، والجارية، والشيخ الفاني، الذي لم يقرأ كتابا قط فقال‏:‏ إن القرآن أنزل على سبعة أحرف‏"‏‏.‏

وقال أحمد أيضا‏:‏ حدثنا وَكِيع وعبد الرحمن، عن سفيان، عن إبراهيم بن مهاجر، عن رِبْعى بن حِراش‏:‏ حدثني من لم يكذبني -يعني حذيفة- قال‏:‏ لقي النبي صلى الله عليه وسلم جبريل عند أحجار المراء فقال‏:‏ إن أمتك +يقرؤون القرآن على سبعة أحرف، فمن قرأ منهم على حرف فليقرأ كما علم، ولا يرجع عنه‏.‏ وقال عبد الرحمن‏:‏ إن في أمتك الضعيف، فمن قرأ على حرف فلا يتحول منه إلى غيره رغبة عنه‏.‏ وهذا إسناد صحيح ولم يخرجوه‏.‏

حديث آخر في معناه عن سليمان بن صرد‏:‏ قال ابن جرير‏:‏ حدثنا إسماعيل بن موسى السديّ، حدثنا شريك عن أبي إسحاق، عن سليمان بن صرد -يرفعه- قال‏:‏ ‏"‏أتاني ملكان، فقال أحدهما‏:‏ اقرأ‏.‏ قال‏:‏ على كم‏؟‏ قال‏:‏ على حرف‏.‏ قال‏:‏ زده، حتى انتهى إلى سبعة أحرف‏"‏‏.‏ ورواه النسائي في اليوم والليلة عن عبد الرحمن بن محمد بن سلام عن إسحاق الأزرق عن العَوَّام بن حَوْشَب، عن أبي إسحاق، عن سليمان بن صرد قال‏:‏ أتى أبيّ بن كعب رسول الله صلى الله عليه وسلم برجلين اختلفا في القراءة، فذكر الحديث‏.‏

وهكذا رواه أحمد بن مَنِيع عن يزيد بن هارون، عن العوام بن حوشب به، ورواه أبو عبيد عن يزيد بن هارون، عن العوام، عن أبي إسحاق، عن سليمان بن صرد، عن أبيّ أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم برجلين، فذكره‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق، عن فلان العبدي -قال ابن جرير‏:‏ ذهب عني اسمه- عن سليمان بن صرد، عن أبيّ بن كعب قال‏:‏ رحت إلى المسجد، فسمعت رجلا يقرأ فقلت‏:‏ من أقرأك‏؟‏ قال‏:‏ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلقت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت‏:‏ استقرئ هذا‏.‏ قال‏:‏ فقرأ، فقال‏:‏ ‏"‏أحسنت‏"‏‏.‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ إنك أقرأتني كذا وكذا‏!‏ فقال‏:‏ ‏"‏وأنت قد أحسنت‏"‏‏.‏ فقلت‏:‏ قد أحسنت قد أحسنت‏.‏ قال‏:‏ فضرب بيده على صدري ثم قال‏:‏ ‏"‏اللهم أذهب عن أبيٍّ الشك‏"‏‏.‏ قال‏:‏ ففضت عرقا، وامتلأ جوفي فرقا‏.‏ قال‏:‏ ثم قال‏:‏ ‏"‏إن الملكين أتياني، فقال أحدهما‏:‏ اقرأ القرآن على حرف، وقال الآخر‏:‏ زده‏.‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ زدني‏.‏ فقال اقرأه على حرفين، حتى بلغ سبعة أحرف فقال‏:‏ اقرأه على سبعة أحرف‏"‏‏.‏

وقد رواه أبو عبيد عن حجاج، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن شتير العبدي، عن سليمان بن صرد عن أبيّ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو ذلك ورواه أبو داود عن أبي داود الطيالسي، عن همام، عن قتادة، عن يحيى بن يَعْمَر، عن سليمان بن صرد، عن أبيّ بن كعب بنحوه‏.‏ فهذا الحديث محفوظ من حيث الجملة عن أبي بن كعب، والظاهر أن سليمان بن صرد الخزاعي شاهد على ذلك، والله أعلم‏.‏

حديث آخر عن أبي بكرة‏:‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏أتاني جبريل وميكائيل، عليهما السلام، فقال جبريل‏:‏ اقرأ القرآن على حرف واحد، فقال ميكائيل‏:‏ استزده، فقال‏:‏ اقرأ على سبعة أحرف، كلها شاف كاف، ما لم تختم آية رحمة بآية عذاب أو آية عذاب برحمة‏"‏‏.‏

وهكذا رواه ابن جرير عن أبي كُرَيب، عن زيد بن الحباب، عن حماد بن سلمة به، وزاد في آخره كقولك‏:‏ هلم وتعال‏.‏

حديث آخر عن سمرة‏:‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا بَهْز وعفان كلاهما عن حماد بن سلمة، حدثنا قتادة، عن الحسن، عن سمرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏أنزل القرآن على سبعة أحرف‏"‏‏.‏ إسناد صحيح، ولم يخرجوه‏.‏

حديث آخر عن أبي هريرة‏:‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أنس بن عياض، حدثني أبو حازم، عن أبي سلمة -لا أعلمه إلا عن أبي هريرة- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏نزل القرآن على سبعة أحرف، مراء في القرآن كفر -ثلاث مرات- فما علمتم منه فاعملوا وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه‏"‏‏.‏ ورواه النسائي عن قتيبة عن أبي ضمرة أنس بن عياض به‏.‏

حديث آخر عن أم أيوب‏:‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا سفيان عن عبيد الله وهو ابن أبي يزيد -عن أبيه، عن أم أيوب- يعني امرأة أبي أيوب الأنصارية- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏أنزل القرآن على سبعة أحرف، أيها قرأت جزاك‏"‏‏.‏ وهذا إسناد صحيح ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة‏.‏

حديث آخر عن أبي جهيم‏:‏ قال أبو عبيد‏:‏ حدثنا إسماعيل بن جعفر، عن يزيد بن خصيفة، عن مسلم بن سعيد مولى الحضرمي وقال غيره‏:‏ عن بسر بن سعيد، عن أبي جهيم الأنصاري؛ أن رجلين اختلفا في آية من القرآن، كلاهما يزعم أنه تلاقاها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمشيا جميعا حتى أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر أبو جهيم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إن هذا القرآن نزل على سبعة أحرف، فلا تماروا، فإن مراء فيه كفر‏"‏‏.‏ هكذا رواه أبو عبيد على الشك وقد رواه الإمام أحمد على الصواب، فقال‏:‏ حدثنا أبو سلمة الخزاعي، حدثنا سليمان بن بلال، حدثني يزيد بن خصيفة، أخبرني بسر بن سعيد، حدثني أبو جهيم؛ أن رجلين اختلفا في آية من القرآن فقال هذا‏:‏ تلقيتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال هذا‏:‏ تلقيتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألا النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏"‏القرآن يقرأ على سبعة أحرف، فلا تماروا في القرآن، فإن مراء في القرآن كفر‏"‏‏.‏ وهذا إسناد صحيح -أيضا- ولم يخرجوه‏.‏

ثم قال أبو عبيد‏:‏ حدثنا عبد الله بن صالح عن الليث، عن يزيد بن الهاد، عن محمد بن إبراهيم، عن بسر بن سعيد، عن أبي قيس -مولى عمرو بن العاص- أن رجلا قرأ آية من القرآن، فقال له عمرو -يعني ابن العاص-‏:‏ إنما هي كذا وكذا، بغير ما قرأ الرجل، فقال الرجل‏:‏ هكذا أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏[‏فخرجا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏]‏ حتى أتياه، فذكرا ذلك له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن هذا القرآن نزل على سبعة أحرف، فأي ذلك قرأتم أصبتم، فلا تماروا في القرآن، فإن مراء فيه كفر‏"‏‏.‏ ورواه الإمام أحمد عن أبي سلمة الخزاعي، عن عبد الله بن جعفر بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة، عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد، عن بسر بن سعيد، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص به نحوه، وفيه‏:‏ ‏"‏فإن المراء فيه كفر أو إنه الكفر به‏"‏‏.‏ وهذا -أيضا- حديث جيد‏.‏

حديث آخر عن ابن مسعود‏:‏ قال ابن جرير‏:‏ حدثنا يونس بن عبد الأعلى، حدثنا ابن وهب، أخبرني حيوة بن شريح، عن عقيل بن خالد، عن سلمة بن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏كان الكتاب الأول نزل من باب واحد وعلى حرف واحد، ونزل القرآن من سبعة أبواب وعلى سبعة أحرف‏:‏ زاجر، وآمر، وحلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال، فأحلوا حلاله، وحرّموا حرامه، وافعلوا ما أمرتم به، وانتهوا عما نهيتم عنه، واعتبروا بأمثاله، واعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه، وقولوا‏:‏ آمنا به كل من عند ربنا‏"‏‏.‏ ثم رواه عن أبي كُرَيْب عن المحاربي، عن ضمرة بن حبيب، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن ابن مسعود من كلامه وهو أشبه‏.‏ والله أعلم‏.‏